سورة النبأ - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النبأ)


        


{لابثين فِيهَا} حالٌ مقدرةٌ من المستكنِّ في للطاغينَ وقرئ: {لبثينَ}. وقوله تعالى: {أَحْقَاباً} ظرفٌ للبثِهم أي دُهُوراً متتابعةً كلما مضَى حقبٌ تبعَهُ حقبٌ آخرُ إلى غيرِ نهايةٍ فإن الحقبَ لا يكادُ يستعملُ إلا حيثُ يرادُ تتابعُ الأزمنةِ وتواليها فليسَ فيه ما يدلُّ على تَنَاهِي تلكَ الأحقابِ ولو أُريدَ بالحقب ثمانونَ سنةً أو سبعونَ ألفَ سنةٍ. وقولُه تعالى: {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً} جملةٌ مبتدأه أخبرَ عنُهم بأنَّهم لا يذقونَ فيها شيئاً ما من بردَ ورَوْحٍ ينفسُ عنُهم حرَّ النَّارِ ولا من شرابٍ يُسكِّنُ من عطشِهم ولكنْ يذوقونَ فيها حميماً وغسَّاقاً، وقيلَ: البردُ النومُ وقرئ: {غَسَاقاً} بالتفخيف وكلاهُما ما يسيلُ من صديدِهم {جَزَاء} أي جُوزوا بذلكَ جزاءً {وفاقا} ذَا وفاقٍ لأعمالِهم أو نفسُ الوفاقِ مبالغةٌ أو وافقَها وِفاقاً، وقرئ: {وَفَاقاً} على أنَّه فَعالٌ من وَفَقُه كذا أي لاقَهُ {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} تعليلٌ لاستحقاقِهم الجزاءَ المذكورَ أي كانُوا لا يخافونَ أنْ يُحاسبُوا بأعمالِهم {وَكَذَّبُواْ بئاياتنا} الناطقةِ بذلكَ {كِذَّاباً} أي تكذيباً مُفرطاً ولذلكَ كانُوا مصرينَ على الكفرِ وفنونِ المَعَاصِي وفِعَّالٌ من بابِ فَعَّلَ شائعٌ فيما بينَ الفصحاءِ وقرئ بالتفخيف وهو مصدرُ كذبَ قالَ:
فَصدَقتُها وَكذَبتُها *** والمرءُ ينفعُهُ كِذَابُه
وانتصابُه إمَّا بفعلِه المدلولِ عليهِ بكذبوا أي وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً وإما بنفس كذبوا لتضمنه معنى كذَّبوا فإنَّ كلَّ مَنْ يكذبُ بالحقِّ فهو كاذبٌ. وقرئ: {كُذَّاباً} وهو جَمعُ كاذبَ فانتصابُه على الحاليةِ أي كذَّبُوا بآياتِنا كاذبينَ وقد يكونُ الكذَّابُ بمعنى الواحدِ البليغِ في الكذبِ فيجعلُ صفةً لمصدرِ كذَّبوا أي تكذيباً كذباً مُفرطاً كذبُه {وَكُلَّ شىْء} من الأشياءِ التي منْ جُملتِها أعمالُهم. وانتصابُه بمضمرٍ يفسرُه {أحصيناه} أي حفظناهُ وضبطناهُ. وقرئ بالرفعِ على الابتداءِ {كتابا} مصدرٌ مؤكدٌ لأحصيناهُ لما أنَّ الإحصاءَ والكتبةَ من وادٍ واحدٍ أو لفعلِه المقدرِ أو حالٌ بمعنى مكتوباً في اللوحِ أو في صحفِ الحفظةِ، والجملةُ اعتراضٌ.


وقولُه تعالى: {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} مسببٌ عن كفرِهم بالحسابِ وتكذيبِهم بالآياتِ، وفي الالتفاتِ المنبىءِ عن التشديدِ في التهديدِ وإيرادِ لَنْ المفيدةِ لكونِ تركِ الزيادةِ من قبيلِ ما لا يدخلُ تحتَ الصحةِ من الدلالةِ على تبالغِ الغضبِ ما لا يَخْفى وقد رُويَ عنِ النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّ هذهِ الآيةِ أشدُّ ما في القرآنِ على أهلِ النَّارِ. {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} شروعٌ في بيانِ محاسنِ أحوالِ المؤمنينَ إثرَ بيانِ سوءِ أحوالِ الكفرةِ أي إنَّ للذينَ يتقونَ الكفرَ وسائرَ قبائحِ أعمالِ الكفرةِ فوزاً وظفراً بمباغيهم أو موضعَ فوزٍ وقيلَ: نجاةً ممَّا فيه أولئكَ أو موضعَ نجاةٍ. وقولُه تعالى: {حَدَائِقَ وأعنابا} أيْ بساتينَ فيها أنواعٌ الأشجارِ المثمرةِ وكروماً بدلٌ منْ مفازاً.
{وَكَوَاعِبَ} أي نساءٌ فلكتْ ثُديهنَّ وهُنَّ النَّواهدُ {أَتْرَاباً} أي لداتٍ {وَكَأْساً دِهَاقاً} أي مُترعةً يقال أدهقَ الحوضَ أي ملأهُ {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا} أي في الجنةِ وقيل: في الكأسِ {لَغْواً وَلاَ كِذباً} أي لا ينطقونَ بلغوٍ ولا يكذبُ بعضُهم بعضاً. وقرئ: {كِذاباً} بالتخفيفِ أي لا يكذبُه أو لا يكاذبُه {جَزَاء مّن رَّبّكَ} مصدرٌ مؤكدٌ منصوبٌ بمعنى أنَّ للمتقينَ مفازاً فإنه في قوةِ أنْ يقالَ جازَى المتقينَ بمفازٍ جزاءً كائناً من ربِّك والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ المنبئةِ عن التبليغِ إلى الكمالِ شيئاً فشيئاً مع الإضافةِ إلى ضميرِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مزيدُ تشريفٍ لهُ صلى الله عليه وسلم {عَطَاء} أي تفضلاً وإحساناً منه تعالَى إذْ لا يجبُ عليهِ شيءٌ وهو بدلٌ من جزاءً {حِسَاباً} صفةٌ لعطاءً بمعنى كافياً على أنَّه مصدرٌ أقيمَ مقامَ الوصفِ أو بُولغَ فيه من أحسبهُ الشيءُ إذا كفاهُ حتَّى قال حَسْبي وقيلَ: على حسبِ أعمالِهم وقرئ: {حِسَّاباً} بالتشديدِ على أنَّه يمعْنى المُحسبِ كالدارك بمعنى المدركِ.


{رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} بدلٌ من ربِّك وقولُه تعالَى: {الرحمن} صفةٌ له وقيلَ: صفةٌ للأولِ وأياً ما كانَ ففي ذكرِ ربوبيتِه تعالى للكلِّ ورحمتِه الواسعةِ إشعارٌ بمدارِ الجزاءِ المذكورِ. وقوله تعالى: {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} استئنافٌ مقررٌ لما أفادَهُ الربوبيةُ العامةُ من غايةِ العظمةِ والكبرياءِ واستقلالِه تعالى ما ذُكِرَ من الجزاءِ والعطاءِ من غيرِ أنْ يكونَ لأحدٍ قدرةٌ عليهِ. وقرئ برفعِهما فقيلَ على أنَّهما خبرانِ لمبتدأٍ مضمرٍ وقيلَ: الثَّانِي نعتٌ للأولِ وقيلَ: الأَولُ مبتدأٌ والثاني خبرُهُ ولا يملكونَ خبرٌ آخرُ أو هو الخبرُ والرحمنُ صفةٌ للأولِ، وقيلَ: لا يملكونَ حالٌ لازمةٌ وقيلَ: الأولُ مبتدأٌ والرحمنُ مبتدأٌ ثانٍ ولا يملكونَ خبرُهُ والجملةُ خبرٌ للأولِ، وحصلَ الربطَ بتكريرِ المبتدأِ بمعناهُ على رأي مَنْ يقولُ بهِ والأوجهُ أنْ يكونَ كلاهُما مرفوعاً على المدحِ أو يكونَ الثانِي نعتاً للأولِ ولا يملكونَ استئنافاً على حالِه ففيهِ ما ذُكرَ من الإشعارِه بمدارِ الجزاءه والعطاءِ كما في البدليةِ لما أنَّ المرفوعَ أو المنصوبَ مدحاً تابعٌ لما قبلَهُ مَعْنى وإنْ كان مَنقطعاً عنه إعراباً كما فُصِّل في قولِه تعالى: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} من سورةِ البقرةِ وقرئ بجرِّ الأولِ على البدليةِ ورفعِ الثانِي على الابتداءِ والخبرُ ما بعدَهُ أو على أنَّه خبرٌ لمبتدأٍ مضمرٍ وما بعدَهُ استئنافٌ أو خبرٌ ثانٍ أو حالٌ وضميرُ لا يملكونَ لأهلِ السمواتِ والأرضِ أي لايملكونَ أنْ يخاطبُوه تعالَى من تلقاءِ أنفسِهم كما ينبىءُ عنه لفظُ الملكِ خطاباً مَا في شيءٍ مَا والمرادُ نفيُ قدرتِهم على أنْ يخاطبُوه تعالَى بشيءٍ من نقضِ العذابِ أو زيادةِ الثوابِ من غيرِ إذنِه على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وقيلَ ليسَ في أيديهم ممَّا يخاطبُ الله بهِ ويأمرُ به في أمرِ الثوابِ والعقابُ خطابٌ واحدٌ يتصرفونَ فيه تصرفَ الملاَّكِ فيزيدونَ فيهِ أو ينقصونَ منْهُ {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} قيلَ: الروحُ خلقٌ أعظمُ من الملائكةِ وأشرفُ منهم وأقربُ من ربِّ العالمينَ وقيل: هو مَلكٌ ما خلقَ الله عزَّ وجلَّ بعدَ العرشِ خلقاً أعظمَ منْهُ. عنِ ابنٍ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا أنَّه إذا كانَ يومُ القيامةِ قامَ هو وحدَهُ صَفّاً والملائكةُ كلُّهم صفاً. وعنْهُ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ: الروحُ جندٌ من جنودِ الله تعالى ليسُوا ملائكةً لهم رؤوسٌ وأيدٍ وأرجلٌ يأكلونَ الطعامَ ثُمَّ قرأَ يومَ يقومُ الروحُ الآيةَ. وهذَا قولُ أبي صالحٍ ومجاهدٍ قالُوا ما ينزلُ من السماءِ ملكٌ إلا ومعه واحدٌ منُهم نقلَهُ البغويُّ. وقيل: هم أشرافُ الملائكةُ وقيلَ: هم حفظةٌ على الملائكةِ وقيلَ: جبريلُ عليهِ السَّلامُ. وصفَّا حالٌ أي مصطفينَ قيلَ: هما صفَّانِ الروحُ صفٌّ واحدٌ أو متعددٌ والملائكةُ صفٌّ وقيلَ: صفوفٌ وهو الأوفقُ لقوله تعالى: {والملك صَفّاً صَفّاً} وقيلَ: يقومُ الكُلُّ صفّاً وَاحِداً. ويومَ ظرفٌ لقولِه تعالى: {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ}. وقولِه تعالى: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً} بدلٌ من ضميرِ لا يتكلمونَ، العائدِ إلى أهلِ السمواتِ والأرضِ الذينَ من جُملتهم الروحُ والملائكةُ. وذكرُ قيامِهم واصطفافِهم لتحقيق عظمةِ سلطانِه وكبرياءِ ربوبيتِه وتهويلِ يومِ البعثِ الذي عليهِ مدارُ الكلامِ من مطلعِ السورةِ الكريمةِ إلى مقطعِها. والجملةُ استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ قولِه تعالى لا يملكونَ إلخ ومؤكدٌ على مَعْنى أنَّ أهلَ السمواتِ والأرضِ إذَا لم يقدرُوا يومئذٍ على أنْ يتكلمُوا بشيءٍ من جنسِ الكلامِ إلاَّ مَنْ أذنَ الله تعالى له منُهم في التكلمِ وقال ذلكَ المأذونُ له قولاً صواباً أي حقّاً فكيفَ يملكون خطابَ ربِّ العزةِ مع كونه أخصَّ من مطلق الكلامُ وأعزَّ منه مراماً لا على معنى أنَّ الروحَ والملائكةَ مع كونِهم أفضلَ الخلائقِ وأقربَهم من الله تعالى إذَا لم يقدرُوا أنْ يتكلمُوا بما هُو صوابٌ من الشفاعة لمن ارتضَى إلا بإذنه فكيفَ يملكُه غيرُهم كما قيلَ فإنَّه مؤسسٌ على قاعدة الاعتزالِ فمن سلكَهُ مع تجويزه أنْ يكونَ يومَ ظرفاً للايملكونَ فقد اشتبَه عليهِ الشؤونُ واختلطَ به الظنونُ وقيلَ: إلا من أذنَ إلخ منصوبٌ على أصلِ الاستثناءِ والمَعْنى لا يتكلمونَ إلا في حقِّ شخصٍ أذنَ له الرحمنُ وقالَ ذلكَ الشخصُ صواباً أي حقَّاً هُو التوحيدُ وإظهارُ الرحمنِ في موضعِ الإضمارِ للإيذانِ بأنَّ مناطَ الإذنِ هو الرحمةُ البالغةُ لا أنَّ أحداً يستحقُّه عليهِ سبحانَه وتعالَى.

1 | 2 | 3 | 4